- الزمن في الرواية :
تعود الجذور الأولى للتفكير في الزمن كمفهوم ، إلى منظورات فلسفية حيث استأثر باهتمام العديد من الفلاسفة ، من مختلف المشارب التي تنطلق من اليومي ، لتطال الكوني والإنطولوجي ، و لتسع فيما بعد مجالات كثيرة فلكية وسيكولوجية ، ومنطقية وغيرها .
عموما ، مفهوم الزمن ، مفهوم فضفاض ، يختلف باختلاف المجال الذي يستخدم فيه .
لكن الذي يهمنا هنا ، هو الزمن الروائي ، باعتباره مكون من مكونات الخطاب الروائي ، والإيقاع الذي يضبط ويحكم أحداث الرواية ، والشاهد الرئيسي على مآل شخصياتها ، والمكون الفعال الذي يغذي حركة الصراع الدرامي فيها .
ويتميز الزمن الروائي ، عن باقي المكونات السردية الأخرى ، بانقسامه إلى قسمين : زمن القصة ، و زمن الخطاب .
1 : زمن القصة : La fiction
وهو * زمن المادة الحكائية ، في شكلها ما قبل الخطابي ، إنه زمن أحداث القصة في علاقتها بالشخصيات والقواعد * . سعيد يقطين . انفتاح النص الروائي ، ( النص _ السياق ). ط. الأولى ، 1989.ص: 49.
وسمي هذا النوع بالصرفي ، لأنه قابل ، حسب سعيد يقطين ،" أن يتجسد في أنحاء عديدة يمده بها تعدد الخطابات ، ومن خلال الخطاب المشتغل على الزمن الصرفي يتحقق زمن الخطاب " سعيد يقطين .المرجع نفسه ص: 47.
وزمن القصة يشمل ماهو كوني ، وماهو سيكولوجي .
بالنسبة للأول ، أي الكوني فيتجسد في الفصول ، والشهور ، و الأيام ، و السنوات ...، أي كل المؤشرات الزمنية التي نجدها في تضبط أوقات الرحلات في محطات القطار و المطارات وغيرها .
أما الثاني ، أي السيكولوجي ، فيشمل مختلف الذكريات و الأحاسيس و المشاعر ، وكذلك مشاريع الأعمال التي يقوم بها بطل الرواية ، و يتضمن أيضا ماهو تاريخي ، كالأثار و الأعمال الفنية وغيرها .
ويجب الإشارة إلى أن هذين الزمنين المذكورين ليسا بالضرورة أن يحضرا في كل قصة .
وخير مثال على ذاك الرواية قيد الدرس - الرهان الأخير لعبد الإله الحمدوشي - و التي نقتبس منها أمثلة توضيحية عديدة ، نجد أنها لا تقدم زمنا ، أو تاريخا دقيقا لبداية الأحداث .
فكل ما هناك بعض المؤشرات الزمنية التي تظهر كومضات زمنية محددة من خلال : الفصول ، والأيام و أجزاؤها ، والساعات والدقائق....
فأحداث الرواية ، قد مرت في فصل الخريف ، وهذا ما نستشفه من خلال ما ورد في ص 9:
" فرغم أن نونبر قد أشرف على نهايته ، لم تنزل درجة الحرارة عن الخامسة والعشرين نهارا ، أما الليل فيتحول دفء الشمس اللذيذ إلى قشعريرة باردة لها وقع اللسعات ". الرواية المذكورة . ص : 9.
2: زمن الخطاب Temps du discour
فيقصد به الزمن الزمن النحوي ، أي ذلك الذي تعطى فيه للخطاب زمنيته الخاصة في إطار العلاقة بين الراوي والمروي له .
فالأحداث في زمن الخطاب ، تسير بشكل خطي ، وفق تسلسل كرونولوجي ، حيث تتخطى فيه الزمنية النحوية ، زمنية الأحداث الطبيعية الصرفية ، من خلال تكسيرات يعتمدها الكاتب .
وزمن الخطاب يمكن دراسته من خلال العناصر التالية :
أ: الترتيب L’ordre
والمقصود بالترتيب ، ترتيب أحداث الرواية وتنظيمها داخل المحكي ، واحترام ترتيب الأحداث حسب تسلسلها الزمني والمنطقي .
وهذا لا يعني لا يمكنه حكي الأحداث قبل حدوثها ، بل العكس تماما ، يمكنه ذلك وفق ما يسمى بالاستباقات كعنصر من عناصر الخطاب الزمني .
2: الاستباقات Les prolepses
الاستباقات هي عملية سردية تتسم بقلتها في النصوص السردية المعاصرة ، إذ لا يعتمدها العديد من الكتاب . والاستباقات تنقسم إلى قسمين :
* استباقات داخلية Les prolepses
وتتمثل في العنوان ، كونها أول ما يلفت انتباه القارئ في الرواية ، لذلك يعد أول استباق للأحداث ، كونه يمثل اختزال للنص في غالب الأحيان .
كما أنه يوحي ضمنا أو تصريحا ، لما سيقع داخل الرواية ، خصوصا وأن الرهان الاخير مثلا ، تدور حول براءة الشخصية الرئيسية في النص !
رهان قام بين الشرطة التي أدانت عثمان ، والمحامي الذي برأه من التهمة ، و يتضح هذا أكثر في اخر جملة في الرواية ، والتي نطق بها المحامي :” لم تكن لتهتم أيها الواعر بهذه الإشارة لو أدين عثمان ، لقد اهتممت بها على ضوء براءته ... لم تربح الرهان " . ص: 169. الرهان الاخير عبد الاله الحمدوشي .
* استباقات خارجية Les prolepses extremes
يقصد بها الأحداث التي ستقع لاحقا ، فينطق بها السارد قبل حدوثها ، وهذا ما يمكن أن يحد من انتظار القارئ ، من أمثلته المقتطفة من نفس الراوية .ص: 45 :
" أحس المفتش أنه سيقع في ورطة كبرى إذا كان الشخص الذي بالداخل قد خرج أثناء غفوته ".
" وسأكون بالنسبة لهم المتهم الأول ، إلى أن يجدوا القاتل الحقيقي ". المصدر نفسه . ص: 51.
" إذا كنت تخشين عن نفسك ، فتأكدي أنني سأبرئك من أية تهمة ، حتى لو ألصقوا بي قتلها ، وحكموا علي بالإعد ام ." الرواية المذكورة .ص: 83.
ب: الاسترجاعات Analepes
وهي تقنية روائية شائعة في الرواية بنوعيها الكلاسيكية و الحديثة ، كما يقوم السارد من خلاله باسترجاع أحداث أو أوصاف مضت وسردها عن طريق الاستحضار والاستذكار من أجل تسليط الضوء على الحاضر .
مثاله :
" ...لما افترقت معك ، وعدت إلى الفيلا ، لم أجد صوفيا قد ماتت ، كانت تحتضر ، وبعينيها ترجتني أن أنزع السكين من بطنها ، لم يكن علي أن أفعل ، و لكنني فعلت ، كان الموقف أقوى مني ...". ص: 85.
“ففي ذلك المساء خرجنا جميعا من الريسطو ، وقبل أن ننطلق بسيارتنا رأيت عثمان وقد صعد السيارة بجانب المدام . أدار المحرك ، لكنه أسكته وعاد مسرعا إلى الريسطو ".
هذه فقط بعض الأمثلة التي اختارناها على سبيل الاستدلال ، أما في الرواية فهناك استرجاعات كثيرة ، وهذا طبيعي كون الرواية بوليسية ، و هناك جريمة قتل ، لذلك من الطبيعي هيمنة الاسترجاعات عن الاستباقات ، حيث أن هناك استرجاع عند كل استجواب.
2: المدة Duree
المدة ، أو السرعة السردية ، أو سرعة القص ، هي التي تحدد انطلاقا من العلاقة بين مدة الوقائع ، أو الوقت الذي تستغرقه ، وطول النص الذي يقاس بعدد الأسطر أو الصفحات .
و قد حدد جيرار جونيت Gerard Genette ، السرعة السردية في أربعة عناصر . المشهد Scene ، الإيجاز Sommaire ، الوقفة Pause، الخذفEllipse.
أ : المشهد Scene:
المشهد ، عادة ما يكون حوارا ، يتطابق فيه زمن السرد و المدة الحقيقية ، ويمكن تبسيط هذا النموذج النظري بالإشارة إلى زمن القصة برمز " ز.ق" ، إي الواقع ، أو المتخيل المسرود . و زمن السرد أو الفعل السردي ب " ز.س ".
ويكون ز. ق = ز. س غالبا في المشاهد الحوارية حيث يشعر القارئ أن الحكاية لا تتجاوز المحكي ولا المحكي يتجاوز الحكاية . ومن أمثلته :
" وماذا ستفعل الان ؟
لست أدري ... أعترف أنني لم أكن مهيأ لمثل هذه المفاجأة.
هل راها أحد المستخدمين وهي تصعد عنده .
طلب الإذن من مستخدم الاستقبالات ، و هو الذي أخبرني أنها صعدت إلى صعدت إلى غرفة جاك ، و كلفني هذا الخبر مئة درهم. الرواية ص: 135 .
ب: الإيجاز Sommaire
إذا كان التساوي هو الذي يطبع المدة ، فإن الإيجاز هو تلخيص للمدة ، إذ " يكتفي السارد بالإشارة إلى الأحداث دون إعطائها ما تستحق من الزمن ، جريا وراء ما يراه أكثر أهمية " كما عبر عن ذلك قنديل أن هاشم . ص: 47 .
مثاله :
" بدا الواعر وكأنه لم يستمع لكلام عثمان ، قلب عدة أوراق في مفكرته طويلا ، يخدق في إحدى صفحاته " الرواية ص: 5
ج: الوقفة Pause
وهي تقنية يتوقف فيها السارد ، ثم يتابع الاحداث من أجل فسح المجال للوصف ، فيشعر القارئ المتتبع للأحداث بشغف ، وتشويق أن متعته قد انتزعت ، من أجل تعليق على ما سبق ، أو من أجل تفسير ، أو إيراد أمثال وحكم ... أو أي شيء من شأنه أن يفصل تدفق الحكاية ، و يوقف مدتها الزمنية .
والوقفة لو بترت و نزعت من المقطع لم يضيع معناه و لن يؤثر عنه بشيء .
مثل :
"تبعته إلى الباب ، وبعد خروجه أحكمت إغلاق الأقفال ، واستسلمت لوحدتها ، لم تخمن أبدًا أن الأبناء يكبرون بسرعة ، و يتزوجون ثم يتبخرون . الكبير يعيش في فرنسا وأخوه ضابط شرطة مثل أبيه في مدينة مكناس ، أما البنت سمية فأدركتها هي الأخرى مهنة أبيها ..." الرهان الأخير ص: 23.
فهذه الفقرة يمكن للقارئ تجاوزها ، واستئناف القراءة ، خاصة وأن ما يخص حياة زوجة الضابط وأبنائه ، بعيد عن موضوع الرواية ، إضافة إلى أن هؤلاء الأشخاص لك يذكروا بتاتا في الرواية ، إلا في هذه الفقرة .
الحذف Ellips
إذا كانت الوقفة وصف سكوني ثابت. فإن الحذف حركة سردية حركية ، وهذا يعني أن السارد في الحذف يقفز على فترة زمنية كاملة .
مثاله :
" يعيش وحيدا في بيت على سطح عمارة ، منذ ثلاث سنوات أعلن إفلاسه التام ، بعد أن طلق زوجته بأربعة أبناء وترك لها البيت ، لم يعد قادرا على تأدية النفقة لأولاده ، وبداية حياة جديدة ، الكل يتحاشاه خوفا أن يطلب سلفة " .
في هذا المقطع كان بإمكان السارد أن يذكر لنا سبب إفلاس " المفتش عسيلة " ، وسبب تطليقه زوجته ، و الاسباب التي وراء خسرانه لراتبه الشهري ، أو ماذا يفعل به ؟ أو لماذا لا يكفيه ، خاصة وأنه وحيد .
لكن السارد قفز على كل هذه المعطيات . و حذفها .
وأيضا "قبل خمس سنوات كان الفقر أعظم مشكل في حياة عثمان ، أما الان فهاهو يرتدي البذل الثمينة ،ويسير مطعما راقيا ، ويسوق سيارة MBW ويسكن فيلا فاخرة ..."
هنا أيضا يطرح السؤال ، ماذا كان يفعل عثمان خلال الخمس سنوات الماضية ، و هو سؤال لكم يجب عنه السارد طبعا . وإنما اكتفى فقط بتصوير الحياة الجديدة لعثمان .
ب : المحكي الإكراري Recit repetatif
المحكي الإكراري ، هو حكي حدث وقع مرة واحدة ، وتكراره عدة مرات ، مثاله في الرواية قيد التحليل كثير ، من ضمنه ، تكرار حدث مقتل صوفيا ، وخوف عثمان من البصمات ، ولحظات انتظار صوفيا... التي شكلت هاجسا قويا بالنسبة لعثمان ، و خلقت له توترا فسار الحدث يكرر بشكل كثير تازة مع نفسه : توقف عن الكلام فجأة ، هل يعترف لها بمخاوفه عن البصمات ؟" ص : 85 . من نفس الرواية .
أطلق تنهيدة وهو يتذكر البصمات مرة مع نفسه ، ومرة مع أمه : " ربما تركت البصمات على السكين الذي قتلت به لما نزعته من بطنها " ص: 41 نفس المرجع .
" وجدتها يا أمي ملقاة على السرير ، تسبح في الدماء والسكين منغرزة في بطنها ...حاولت أن تتكلم ، فتحت فمها ولكنها لم تقل شيئا ، أشارت بعينيها في رجاء إلى بطنها (...) فنزعت السكين من بطنها وأنا في حالة ذهول " ص: 41.
وأخرى مع نعيمة :" لما افترقت معك ، وعدت إلى الفيلا ، لم أحد صوفيا قد ماتت ، كانت تحتضر ، وبعينيها ترجتني أن أنزع السكين من بطنها ، لم يكن علي أن أفعل ، ولكنني فعلت ، كان الموقف أقوى مني ، نزعت السكين ووضعته على الفراش ، وهرعت إلى الهاتف لأياديه الإسعاف والشرطة ". ص . 85- 86 من الرهان الاخير .
وتارة مع الشرطة :" لم تكن ماتت بالمرة ، كانت في نزعها الاخير ... حاولت أن تتكلم فتحت فمها ، ولم تخرج أي صوت ، كنت مرعوبا ، ولم أعرف ما يتوكل علي فعله (...) أمالت رأسها حول صورة تجمعها بابنها ، وكأنها تريد أن تودعه ، أرادت الإمساك بها ولكنها أسقطتها ". ص : 82 نفس المصدر .
وأخرى مع المحامي و الشرطة بعد الإعلان عن براءته : " كانت صوفيا تحتضر ... حاولت أن تتكلم ، ولكنها لم تستطع التفتت على الصورة وحاولت جرها إليها ولكنها أسقطتها ..." ص : 159 نفسه .
ج: المحكي الإعادي Recit iteratif
وهو ما يحكي ويقص حدثا وقع مرات عديدة فقط مرة واحدة ، والهدف من المحكي الإعادي ، هو القفز الزمني والمرور بسرعة لما هو أهم . و من أمثلته : " أظن أنه لا جدوى من ذكر التفاصيل ، كنت واحد ممن تدخلوا لحل المشكلة وقد انتهى بالتفاهم ". ص 61 . رواية الرهان الأخير .
" حكى لها المحامي قضية عثمان مرتبة ، بحيث بدا جوهر المشكل واضحا من كل جوانبه ." ص: 125 . المصدر أعلاه .
0 تعليقات